
ضحى أبو حجلة
"الله معك يا شيرين" كانت تلك جملة جدتي الشهيرة. التي كانت لا تتزحزح من أمام شاشة التلفاز كلما أطلت شيرين ابو عاقلة لتنقل لنا اخبار الاجتياح الاسرائيلي للمدن الفلسطينية عام 2002، جدتي التي عاشت النكبة وعاصرت النكسة وقضت اياماً وليالي في الانتفاضة الاولى والثانية كان يرجف قلبها خوفا على أولئك الصحفيين الشباب والصبايا بعمر الورد وهم ينقلون لنا الأحداث في ذلك الاجتياح
في تلك الأيام كان ممنوع علينا مشاهدة أي شيء لأنها كانت تتنقل بين شاشات التلفاز لمتابعة الأخبار. وكلما كانت تمر على قناة الجزيرة كان لزاماً عليها أن تطمئن على شيرين أبو عاقلة. كانت تقول دوما عنها "هالوردة الله يحميها" .. الله معك يا شيرين.
2004
مر الاجتياح قاسياً علينا، ومرت التغطيات على شيرين بسلام. ومضت الأيام وظلت هذه الصحفية عالقة في ذهني، لتكون المفاجأة عام 2004. عندما كنت طالبة في سنتي الثانية وجلست أمام شيرين أبو عاقلة المحاضرة في جامعة بيرزيت لمساق التقارير التلفزيونية.
كنا 12 طالبا وطالبة نجلس في استوديو التلفزيون الصغير نحدق ببعضنا البعض عندما اكتشفنا أننا سنكون في هذا المساق طلابا لشيرين فهي التي عرفناها عبر شاشة التلفاز في صغرنا وكانت لنا بمثابة البطل الخارق الذي لا يهزم، هي الآن تقف أمامنا "بشحمها ولحمها". أي حظ هذا !!
حينها ملأت وجوهنا الدهشة والرهبة من هذه الأستاذة الرقيقة ذات الصوت الهادئ ولكن سرعان ما اكتشفنا تلك الشخصية الجدية التي تحمل خلف رقتها انضباطاً ومهنية عالية.
أتذكر في ذلك اليوم عندما وزعت علينا قائمة لـ 11 رواية وقالت بصوت حاسم: عليكم قراءتها جميعها وسيكون امتحانكم نهاية الفصل في أحداثها، وبدأت رحلتنا في هذا المساق بين النصوص والتقارير الإخبارية من جهة وبين تفاصيل الروايات التي سنسابق بها الزمن للانتهاء منها مع نهاية الفصل الدراسي، وهو أمر لم نعتد عليه أبداً. عشنا معها في هذا المساق "مئة عام من العزلة" لماركيز، وفككنا "شيفرة دافنشي" واستمعنا للنجوم التي تحاكم القمر وشهدنا على "فيرونيكا وهي تقرر أن تموت" وغيرها من الروايات والأحداث والتقارير الميدانية ومعاناة المهنية التي يعيشها كل صحفي في هذه البلاد.
انتهى ذلك الفصل الدراسي مع شيرين وخرجنا منه بدروس مهمة كالارتجال أمام الكاميرا، وأسهل طريقة لحفظ وإلقاء المعلومات على الهواء مباشرة، ومواجهة الأحداث والسيطرة على الخوف، تنفسنا الصعداء، وودعتنا على أمل اللقاء في الميدان كزملاء مهنة ورددنا جميعا: إلى اللقاء يا معلمتنا، لحظتها تذكرت جملة جدتي التي كانت قد توفاها الله في نفس الفترة فرددت في سري "الله معك يا شيرين".
وعدنا نشاهد شيرين كما كنا نشاهدها في السابق: على شاشة التلفاز. ونستمر في التعلم منها مع كل ظهور إعلامي او تغطية إخبارية، ولا نفوت فرصة إلا ونفتخر أننا طلابها وأننا تعلمنا على يدها، وأصبحت أنا مثل جدتي كلما سمعت بخبر أو حدث ما، أذهب للتلفاز لأتفقد شيرين واطمئن أنها على الهواء وأردد في داخلي "الله معك يا شيرين" وأذهب.
2019
في 2019 قرر مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت إطلاق برنامج دبلوم الإعلام الرقمي وتم اختياري لأكون منسقة هذا البرنامج، ووجدت نفسي أمام شيرين أبو عاقلة مرة أخرى تطلب مني أن أشرح لها أهمية هذا البرنامج وكيف سيفيدها؟ الغريب أني تساءلت في نفسي " ولماذا تريد شيرين الحصول على هذا الدبلوم، وهي أساسا استاذة وصحفية مخضرمة ولديها خبرة وعمل وووو.. ".
ومع ذلك صدمتني أسئلتها.. وقلت في نفسي" ماذا أقول لها؟ هل يعقل أن تكون معي في هذا الدبلوم؟ تذكرت درسا أعطتني إياه قبل 15 عاماً وأنا طالبتها عندما فشلت في إنتاج أحد تقاريري بسبب خوفي من المواجهة والتعبير، عندها قالت لي: "عليك بالإيمان، آمني بالفكرة والبسي درع الإصرار وتناسي مخاوفك وانطلقي ستحصلين على مبتغاك لا محالة"، وبالفعل استجمعت كل الإصرار والتحدي الذي أملكه ونظرت في عيونها وبدأت أشرح لها أهمية دبلوم الإعلام الرقمي، بالتحديد كونها صحافية عملاقة ومرموقة، وأن الدبلوم سيكون بمثابة الدرع الواقي الذي تلبسه في المواجهات ويحميها من الرصاص والقنابل وهكذا برنامجنا سيكون درعاً يقربها أكثر من قصة التحول إلى الرقمنة الرهينة التي حدثت في الصحافة وفي وسائل الإعلام، والمهارات التي ستعرفها على أن تكون ليس فقط صحفية، وإنما مصورة ومصممة، وممنتجة محترفة صحفياً وفنياً، فما كان منها إلا و رسمت ابتسامة دافئة وقالت : "طيب يا ضحى، اقتنعت، سأسجل في هذا الدبلوم".
لن أنسى فرحتي في تلك اللحظة وأنا أعيش نشوة المنتصر، أركض بين مكاتب زملائي مشرفي البرنامج وأبشرهم بأن شيرين أبو عاقلة ستكون معنا في هذه الدبلوم.
كانت شيرين طالبة مجتهدة جداً حريصة كل الحرص على الاستفادة بأقصى حد من كل ما يقدم لها، لا أتذكر أبداً أنها تغيبت عن أي محاضرة أو تأخرت عن أي تدريب، إلا مرةً واحدة حيث كانت في مهمة لتغطية إحدى العمليات العسكرية في جنين، جنين تلك المدينة التي عاشت فيها آخر لحظات حياتها، وتأخرت في العودة إلى بيرزيت، ولكن ليست شيرين من تغيب عن محاضرة أبداً، فاتصلت بي قبل موعد المحاضرة بدقائق، رجف قلبي عندما رأيت اسمها على هاتفي وقلت الله يستر هذه شيرين وباقي على المحاضرة عشر دقائق!!.
إلا أنها وعلى عكس ما توقعت طلبت أن الاقيها في الحمام لتغسل وجهها وتصحصح قبل الدخول للمحاضرة، من فرحتي أنها لن تغيب وعدتها أن أحضر لها فنجان قهوة وستجده بجانب جهازها في قاعة التدريب. شكرتني كثيراً شربت القهوة وأكملت تدريبها بكل نشاط.
شيرين الجميلة خفيفة الظل المحبوبة من الجميع دون استثناء، القوية اللينة، البسيطة الجبارة، الحنونة الصارمة، كانت تترك أثرها أينما ذهبت وفي قلب كل من عرفها وقضت معنا في الدبلوم أكثر من سنة تحولت من نجمة على التلفزيون إلى صديقة استثنائية، ولم أعد أفتح التلفاز كما جدتي كلما سمعت بخبر أو حدث ما لأطمئن عليها بل أصبحت أهرول إلى هاتفي أرسل لها رسالة وانتظر ردها، ولم أعد أهمس في سري وادعي لها بدعوة جدتي "الله معك يا شيرين" بل أصبحت أقولها لها مباشرة وتستقبلها هي بابتسامتها الساحرة وتذهب.
11 أيار 2022
بدا وكأنه يوما عاديا وأنا بطبعي لا أتفقد مواقع التواصل الاجتماعي صباحاً ولا استمع إلى الأخبار، انطلقت لإيصال أولادي إلى المدرسة، في الطريق غلبني الفضول لأن هاتفي لم يتوقف عن الرنين، فتوقفت جانباً لتفقد ما يحدث.
ثمة رسائل نصية كثيرة.
- "وزارة الصحة: إصابة الصحافية شيرين أبو عاقلة برصاص حي في الرأس ووضعها حرج للغاية"
بدء دمي يغلي وذهبت لمجموعة الوتس آب الخاصة بطلاب الدبلوم دفعة شيرين، قلت سأجدها هناك تضحك وترد على هذه الإشاعة وتقول "أنا هنا لا تقلقوا، لكني وجدت رسائل كثيرة في المجموعة تقول
-استشهدت
-استشهدت
-استشهدت
اصطدمت بالجدار، بالفاجعة، بالموت.. وقلت لن أفتح الفيس بوك ولن اسمع الأخبار وأنا متأكدة أن الخبر سيختفي حال وصولي إلى الجامعة وكأنه ما كان، ولكن ما إن وصلت الجامعة ووجدت زملائي يبحثون عني لأنهم يريدون صورة لشيرين لنشرها مع النعي حينها فقط بدأت أدرك أنها بالفعل رحلت وأن الخبر لن يختفي حتى وإن لم افتح الفيسبوك أو لم اسمع الأخبار... رحلت شيرين وترك فينا أثراً كبيراً. واليوم وغداً وفي كل لحظة سأقولها سراً وعلناً.. الله معك يا شيرين.