2022-05-19T09:21:42

شيرين أبو عاقلة، إنسانة وزميلة وشهيدة- عماد الأصفر

 

عرفتُ شيرين منذ العام 1995 كانت قد تخرجت للتو من جامعة اليرموك، وعملت في إذاعة صوت فلسطين التي انطلق بثها حديثاً آنذاك في مدينة أريحا، كانت الإذاعة قد أوفدتها إلى ألمانيا لأخذ دورة في فنون العمل الإذاعي، وكنت عائداً من العراق إلى وطني الذي غادرته ابن عامين خلال النكسة.

كانت الإذاعة عبارة عن غرفة واحدة للجميع وستوديو صغير للبث، وغرفة لا تتسع إلا لمكتب واحد وكرسيين للمدير باسم أبو سمية، وعلى السطح تم استحداث غرفة تغلي من الحرارة لإجراء المقابلات وإجراء عمليات المونتاج، كانت شيرين هناك في ذلك الجحيم تجري مقابلة إذاعية.

أغلق جيش الاحتلال مدينة أريحا وكان علينا أن نصل إلى الإذاعة هناك من رام الله، اتصلنا بأحدهم فقال: ما إلكم إلا شيرين، جاءت شيرين من القدس بسيارتها التي تحمل نمرة صفراء إلى رام الله وأخذتنا إلى أريحا بكل سرور.

في اليوم التالي استضافتني شيرين في برنامجها سهرة خميس وكانت تقدمه بشكل مشترك مع الزميل عاصف حميدي، للحديث عن الفلسطينيين في العراق.

انتقلت الإذاعة إلى رام الله

  • شيرين: إذا النشرة بخط عماد لا تطبعوها.
  • شكرا شيرين

تستلم نشرة الأخبار، تراجعها، تستفسر عن لفظ قرية أو اسم عائلة، تعيد كتابة الأسماء الأجنبية بالإنجليزية ليسهل عليها لفظها بالشكل السليم، كانت تتقن الإنجليزية والفرنسية والعبرية.

في ذلك الوقت قررنا الاحتجاج على السياسة التحريرية للإذاعة وعلى سوء اوضاع العاملين، رفعنا صوتنا عالياً، وبعثنا شكاوى للمجلس التشريعي، ورسائل للقيادة، وقابلنا عدة مسؤولين ونشرنا بياناً موجها للرئيس ياسر عرفات على الصفحات الأولى للصحف، كانت شيرين معنا في كل هذه الخطوات، خاصة عندما نذهب لمقابلة المسؤولين لشرح مطالبنا.

حققنا بعض المطالب، جاءتنا فاتورة إعلانات الصحف ٥٠٠ شيكل،

  • شيرين: سأدفعها انا.
  • انا: لا لن ندفعها سنرسلها لمكتب رئيس الهيئة رضوان أبو عياش ليدفعها.

وفعلا دفعها.

لم تتوقف شيرين عن التعلم واكتساب المهارة، انضمت لدراسة دبلوم الإذاعة في مركز تطوير الإعلام بجامعة بيرزيت والذي كان يقوده وقتها الأساتذة نبيل الخطيب وعارف حجاوي ووليد العمري، انطلق نبيل إلى mbc وانطلق وليد إلى الجزيرة مستقطبا معه شيرين أبو عاقلة.

ما زلت عند رأيي وانحيازي للعمل الإذاعي، فهو منجم للخبرة الصحفية لأنه يعلم الاختصار والتكثيف، والكتابة بطريقة تصنع مشاهد صوتية مرئية، يستطيع السامع تخيلها، ويجعلك جاهزاً على الدوام، ويعطيك شخصية صوتية أصيلة، فالبصمة الصوتية لا تختفي ولا تتبدل كالشخصية المرئية التي قد تتلون بالملابس والماكياج والإكسسوارات والمؤثرات، وشيرين كانت بنت الإذاعة ولذلك كان من السهل أن تعمل لمونت كارلو إلى جانب عملها للجزيرة.

شيرين في الجزيرة

جيش الاحتلال يجتاح رام الله، يحاصر المقاطعة، يفرض حظر التجوال، يقتحم العمارة حيث مكاتب الجزيرة، شيرين على الهواء في بث مباشر، دون أدنى ذرة خوف، في غاية التركيز، كل ما تريده هو أن تظل على الهواء، اقتحم الجنود المدججون بالسلاح المكاتب، لم تتوقف لم ترتبك، كانت تتحرك فقط لتضع الجنود وأسلحتهم في مرمى الكاميرا.

ذكريات الخاضعين لمنع التجوال عن هذا الاجتياح مأخوذة بالكامل من تقارير الجزيرة ومن أفواه مراسليها وعدسات مصوريها.

يكاد مكتب الجزيرة في فلسطين أن يكون المكتب الوحيدة من مكاتب هذه الفضائية العملاقة الذي ظل ممسكاً على جمرة المهنية، والبعد عن التجنيد والانحياز السياسي، والوفاء لرسالته ومبادئ مهنته وأخلاقياتها، لم يكن هذا سهلاً في بلد كفلسطين، إلا بفضل وليد وشيرين وجيفارا وإلياس.

ولعل شيرين كانت الاهدأ من بينهم، والأكثر قدرة على امتصاص الانتقادات الموجهة للجزيرة، لم تكن تدخل في جدل، ولم تكن تقاطع أحدا، وكانت خير مثال لما يجب أن يكون عليه الصحفي بوصفه شخصية عامة.

ألو عماد، بعرف إنك مقاطع الجزيرة، بس مين برأيك ممكن نستضيفه لبرنامج الصحافة؟

  • سجلي عندك .............
  • شكرا عماد
  • عفوا

الجزيرة تتعرض لتهديدات بحرق مكاتبها، وأنا أكتب: "طاقم الجزيرة في فلسطين من أكثر من عرفت من الزملاء مهنية ووطنية، وأنا شاهد على اختلافهم مع سياسة قناتهم ،،، لهذا الطاقم أفضاله على قضيتنا في الحصار والعدوان والاجتياح، الموقف من الجزيرة لا ينسحب إطلاقا على طاقمها في فلسطين".

جيش الاحتلال يغلق حاجز سردا ويمنع سكان القرى ومدرسي وطلبة بيرزيت من الوصول للجامعة بالسيارات، سيكون على الجميع أن يقطعوا المسافة التي تزيد على الكيلو متر ونصف مشياً على الأقدام، مهما كانت حالتهم، كنت أقطع المسافة راكبا الحنطور، إلا إذا كان معي وليد أو عارف، كانا يفضلان المشي ويريان في الركوب إغراقاً في القبول والتكيف، لا أعرف كيف كانت شيرين تقطع هذه المسافة لتدرس طلاب الإعلام كيفية إعداد التقارير التلفزيونية.

ستعود شيرين إلى بيرزيت طالبة من جديد في الدفعة الأولى من دبلوم الإعلام الرقمي في مركز تطوير الاعلام، الانضباط والتواضع والتعاون كنت أبرز الصفات التي استقرت عنها في أذهان مدرسيها وزملائها، لم تكن شيرين من الساعين للنجومية والشهرة كغيرها، لقد كانت نجوميتها المستحقة نتيجة لعمل جاد بدوافع إنسانية ونية طيبة، في حفل التخرج قالت يومها:

"اليوم أقول بثقة إن الحديث عن تطور الإعلام الرقمي، لم يعد ذاك الغول الذي يصيبني بالذعر كما كان الحال قبل عامين ونصف، إذ اعتقدت حينها أن تعلّم هذه المهارات سيكون حكراً على جيل فتح عينيه على هذا النوع من التكنولوجيا، لكنني اكتشفت أن المهارات قابلة للتعلم، ولم يعد ذكر صحافة الموبايل أو استخدام البرامج المتعددة كالفوتوشوب والإنفوغراف يسبّبان لي الخوف، فقد أتقنت بعضاً منها وصرت على دراية كافية بمبادئ بعضها الآخر، وبات التطور اليومي الذي أراه على الشاشات، وعبر وسائل التواصل، أمراً اعتيادياً"

صباح يوم 6 أيلول 2021 هرب 6 معتقلين فلسطينيين من سجن جلبوع، بعدها بساعات كانت شيرين في جنين، وكتبت بعد ذلك بالإنجليزية لمجلة This week in Palestine

" ربما كانت مصادفة أعادتني عشرين عامًا إلى الوراء. عندما وصلت إلى جنين في أيلول (سبتمبر)، لم أكن أتوقع أن أعيش من جديد هذا الشعور الساحق. لا تزال جنين هي نفس الشعلة التي لا تنطفئ والتي يعيش فيها الشباب الشجعان الذين لا يخافون من أي غزو إسرائيلي محتمل.

كان نجاح الهروب من سجن جلبوع هو السبب الذي دفعني إلى قضاء عدة أيام وليالي في المدينة. كان الأمر مثل العودة إلى عام 2002 عندما عاشت جنين شيئًا فريدًا، على عكس أي مدينة أخرى في الضفة الغربية. مع اقتراب نهاية انتفاضة الأقصى انتشر مسلحون في أنحاء المدينة وتجرأوا علناً على اقتحام المخيم.

في عام 2002، أصبحت جنين أسطورة في أذهان الكثيرين. المعركة في المخيم ضد قوات الاحتلال في نيسان ما زالت حاضرة بقوة في أذهان سكانه، حتى أولئك الذين لم يولدوا بعد عندما حدثت......

بالنسبة لي، جنين ليست قصة سريعة الزوال في مسيرتي المهنية أو حتى في حياتي الشخصية. إنها المدينة التي يمكن أن ترفع معنوياتي وتساعدني على الطيران. إنها تجسد الروح الفلسطينية التي ترتجف أحيانًا وتسقط، لكنها، فوق كل التوقعات، ترتفع لتتابع رحلاتها وأحلامها.

وكانت هذه تجربتي كصحفي. في اللحظة التي أكون فيها مرهقًا جسديًا ومنهكًا عقليًا، أواجه أسطورة جديدة ومدهشة. قد تخرج من فتحة صغيرة، أو من نفق محفور تحت الأرض".

على أرض جنين التي كانت ترفع معنوياتها، حلقت شيرين شهيدة، بعد أن ظل الموت يطاردها وقريباً منها لربع قرن، لم تلتفت إليه لأنها واصلت التركيز على رسالتها بكل تفان وإخلاص، ربما تعبت ربما أرادت لو أطال الله في عمرها أن تواصل الدراسة أو التدريس وأن تنهي عملها في الميدان.

9 من بين كل عشرة مرتكبين لاعتداءات على الصحافيين يفلتون من العقاب، حصة الاحتلال من الإفلات من العقاب هي الأكبر طبعاً، عدد الشهداء من الصحفيين برصاص الاحتلال ضعف ما يتم اعتماده لدى الهيئات الدولية، لضعف التوثيق، جريمة قتل شيرين إن لم تكن قادرة على تعديل هذا المسار الدموي، يجب أن تكون باعثة على تطوير المهنية لدى الصحفيين، ودافعاً لهم من أجل مزيد من التعلم، والحفاظ على المهنية والأخلاق في هذا العمل الإنساني الذي بات اليوم بحاجة إلى تصحيح.

رحلت شيرين كأبهى ما يكون الرحيل، لم اجرؤ على مشاهدة أي فيديو للجريمة، قررت ألا احتفظ في ذاكرتي إلا بابتسامتها الدائمة السهلة المريحة، ونظراتها الباعثة على الثقة، رحلت شيرين لتستقر في أذهاننا؛ حزناً وقهراً، دمعة وحرقة، فخراً وابتسامة، مثل أعلى ونموذج عمل يحتذى.