من بيرزيت إلى معلم لامع في الفيزياء والرياضيات
بدأت في جامعة بيرزيت بتجربة قاسية، فبعد أن كنت طالباً في الطب في جامعة بغداد في عام 1973، بدأت حرب أكتوبر خلال وجودي في فلسطين حيث كنت في رحلة إلى البلاد لترتيب أمور المعيشة في بغداد، فلم أستطع السفر واضطررت قسراً للبقاء في البلاد. ومن هناك قادتني الرحلة إلى التسجيل في جامعة بيرزيت.
بدأت رحلتي مع مادة الفيزياء مع دكتور إدوارد صادر، الذي أعتز بكوني أحد طلبته، وقد قام بتسليمنا أول واجب فصلي ولم يستطع أي منا حل أي سؤال، حيث أنه كان يدرسنا من كتاب اسمه theoretical mechanics ولم يكن موجوداً إلا في الجامعة العبرية في بئر السبع، فقمت بالذهاب إلى هناك وإحضار نسخة من الكتاب حتى أدرس منه، وعند تقديم الامتحان الأول حصلت على علامة 95%، ومنذ تلك اللحظة قررت التخصص في الفيزياء.
مع بدء دراستي في جامعة بيرزيت وحتى أتكفل بتكاليف التعليم، قدمت على منحة الدراسة والعمل، فكنت في الفصل الأول لي في الجامعة أعمل في كنس غرف الطلبة، وكنت اتقاضى 20 قرش أردني مقابل الساعة، وأحصل في نهاية كل شهر ما بين 10 إلى 15 دينار. وفي سنتي الثانية عملت في مطعم وكافتيريا الجامعة، حيث كنت اجمع الصحون وأقوم بالجلي بعد انتهاء الطلبة من تناول الطعام. وفي السنة التي تلتها عملت في مكتبة الجامعة ومختبرات كلية العلوم في تصليح تقارير تجارب المختبر والتحضير للتجارب في المختبرات. في سنتي الأخيرة سمعت أنهم بحاجة لمدرسي فيزياء في التربية والتعليم حيث اتصل بي الأستاذ ماجد أسعد رحمه الله الذي كان يشغل منصب رئيس قسم الموظفين في الجامعة ودعاني لتقديم طلب للتدريس وبعدها بأسبوع تواصل معي من أجل بدء الدوام، عملت خلال هذا العام في مدرسة سنجل كمعلم للفيزياء والكيمياء والرياضيات والثقافة العلمية لطلبة الثانوية العامة، ومدرسة الأمير حسن في بيرزيت مدرساً للرياضيات لطلبة الثانوية العامة والأول ثانوي. كان يبدأ يومي في جامعة بيرزيت في الساعة 6:30 صباحاً وقد كنا ثلاثة طلبة في تخصص الفيزياء، أنا ود.عبد العزيز شوابكة وأ. يوسف السلامين، وبعد المحاضرة كنت انطلق للعمل في المدرسة، وخرّجت خلال هذا العام فوجين من طلبة الثانوية العامة في سنجل وبيرزيت، وخلال تلك الفترة كان لدي الامتحان الشامل في الفيزياء، وفي يوم الامتحان توجهت صباحاً إلى المدرسة لأعطي الثلاث حصص الأولى ومن ثم عدت إلى الجامعة لتقديم الامتحان وبعد انتهائي من الامتحان خلال ثلاث ساعات، عدت للمدرسة لإعطاء الحصة الأخيرة.
أنهيت العام، وحضرت تخريجي الجامعي، وتخريج طلبتي من الثانوية العامة في بيرزيت وفي سنجل، ولا زلت على تواصل حتى الآن مع طلبتي في المدرستين حيث يحتلون مكانة خاصة لدي كونهم أول طلبة درستهم.
مرارة الحياة والفقر ولدت لدينا الإصرار على الدراسة والتفوق، والسعي المستمر في العمل، فبعد أن حملت شهادتي الجامعية، تواصلوا معي من وزارة التربية والتعليم ليعلموني أن ثلاثة من مدراء المدارس قاموا بطلبي بالاسم للتعليم في مدارسهم، سنجل والأمير حسن ومدرسة عين يبرود التي مكثت فيها 25 عاماً وكان مدير المدرسة آنذاك الأستاذ المرحوم مصطفى الجريري الذي رافقته طول مدة خمس سنوات حتى تقاعده من المدرسة وحينها كان قد وضع سريراً في إحدى القاعات كي لا أضطر إلى العودة يومياً إلى الخليل، استلم إدارة المدرسة من بعده أ. علي العم والذي وبعد 20 عاماً انتقل إلى مدرسة الهاشمية الثانوية، وقام بطلب نقلي معه إليها أيضاً. في سنتي الأولى أيضاً، تواصل مدير التربية والتعليم مع مدرسة عين يبرود وطلبوا أن أدرس أيضا في مدرسة راهبات الوردية في القدس، وعملت هناك لمدة عامين. بدأت بعدها بالعمل في مدرسة الكلية الأهلية ومدرسة راهبات مار يوسف التي درّست فيها مدة 15 عاماً. وفي تمام الساعة 6:00 مساءً، كنت أتوجه لمدرسة الطيبة للتدريس فيها. وفي العام 1982 تم تعيني مسؤول لقاعات التوجيهي ورئيس لقاعة في الامتحانات الشاملة ورئيس لجنة تصحيح احيانا فيزياء واخرى رياضيات كما عملت في فرز النتائج عندما كان رئيس لجنة الامتحانات المرحوم الأستاذ مفلح الزرعي وبقيت مكلفاً بهذه المهام حتى التقاعد. ومن المواقف التي أستذكرها جيداً إحضاري لطالب من أريحا بعد التواصل مع ذويه وتحديد مكانه في رام الله لتقديم امتحان الثانوية العامة. وموقف أخر حصل معي حينما علمت أن أحد طلبة بلدة رمون وأثناء محاولته الوصول إلى المدرسة لتقديم الامتحان حيث كانت المواصلات متوقفة بسبب الإضراب الشامل الذي عم البلاد حينها، فحاول القفز عن سياج وقطع إصبعه، فتوجهت إلى رئيس لجنة الامتحانات العامة وانتزعت للطالب فرصة لإعادة الامتحان، فأعاده ونجح.
استمرت رحلتي في رام الله ومدارسها حتى العام 2003، لأعود بعدها للخليل للاعتناء بوالدتي وأخواتي، وعملت في الخليل لثلاث سنوات. لأسلم كتاب التقاعد لابني ليسلمه لمكتب التربية والتعليم في جنوب الخليل، وكتبت فيه "أحلت نفسي للتقاعد"، لأعمل فوراً في مدرسة الشرعية في الخليل وعملت فيها مدة سنتين، وعدت إلى رام الله لمدرسة نور الهدى لمدة سنتين، وبعدها إلى كفر عقب لمدرسة العزيزية لمدة عام، ودار المعرفة لمدة ثلاث سنوات. انتقلت بعدها إلى مدرسة رؤى في بيت حنينا لمدة نصف عام، حيث لم أحصل على تصريح عمل وأوقفتني على الحاجز مجندة تسألني عن وجهتي. عدت وعملت في مدرسة الفرقان لثلاثة أشهر، وانتقلت إلى مدرسة المطران في القدس لأنهي بعدها حياتي العملية إلا أنني على تواصل مستمر مع مئات الطلبة الذين علمتهم خلال حياتي.
بيرزيت كانت عبارة عن أسرة كبيرة متآلفة، كل من فيها يعرف بعضهم، فكانت الجامعة بيتنا الثاني، وكنت أسكن في شارع عطارة، وفي أحد الأيام وكانت تحديداً ذكرى يوم الأرض، انتفضت يومها الجامعة، وبدأت المواجهات، وفي آخر النهار وبعد العودة إلى المنزل، أردنا تحضير الطعام، وخرجنا إلى البقالة لشراء أغراض الطعام، مشينا إلى حرم الجامعة القديم حيث توجد بقالة قريبة، فإذا بدورية للجيش تمر بالقرب منا وتوقفت وخرج منها ضابط ألقى بي إلى مؤخرة السيارة بين الجنود الأربعة في الخلف، واقتادوني إلى الشارع الذي فيه مصنع الأدوية وانهالوا علي بالضرب والإهانات والتحقيق حول من ضرب الحجارة وأغلق الشارع، لينقلوني بعدها إلى باص أمام مبنى البريد في بيرزيت وهناك كان يجلس أحد الشباب اسمه مازن سنقرط، وطوال الوقت كان يتعرض لنا الضابط ويضربنا، ويهددنا بالنقل إلى سجن رام الله العسكري لنعترف. خلال هذا الوقت أبى دكتور حنا ناصر تركنا وبقي يفاوض الضباط لمدة تزيد عن الثلاث ساعات حتى لا ينقلونا، وبعد مرور ما يقارب أربعة ساعات ووقوف د. حنا بالقرب من الباص، أتى أحد الجنود وطلب منا النزول. وفي اليوم التالي، أقام لنا الطلبة في الجامعة احتفالاً كبيراً شعرنا فيه أننا بين عائلتنا، وما يصيب أحد أفراد العائلة يصيبنا جميعنا.
تختلف بيرزيت اليوم كثيراً عما كانت عليه، فكنا في انتخابات مجلس الطلبة نبحث دوماً عمن يستطيع خدمة الطالب، وكان رئيس المجلس قادراً على أن يقود عمله في المجلس بإحكام، فكان قائد وإداري بمعنى الكلمة، والمختلف أيضاً هي الخلافات التي تحدث الآن بين الكتل الطلابية ففي حينها كان الخلاف هو نقاش فكري على أحد القضايا أو المواقف وكانت تنتهي بنهاية الانتخابات.
بيرزيت الصرح الذي اعتز به وهي المكان الذي لن أنساه، وأينما حللت بيرزيت هي هويتي، وهي المكان الذي نشأت فيه ذهنياً. ولن أنسى اليوم الذي وقفت فيه على منصة التخريج وقام أ. توفيق أبو السعود بتسليمي شهادة التخرج ولا زلت احتفظ بتلك الصورة.
أوجه رسالتي لخريجي وطلبة الجامعة وللخريجين أقول، أنت استقيت من بيرزيت رسالة خرجت فيها للمجتمع الفلسطيني يجب أن يكون عملك فيها بإخلاص، لا تنسى ماضيك فهو ما جعلك اليوم تقف على عتبة الحاضر، لولا المكان الذي استقيت منه العلم لما وصلت إلى ما أنت عليه الآن، فاعملوا بإخلاص وضعوا كل إمكاناتكم في العمل وابحثوا دائماً عن مكان تستطيعون العطاء فيه. ونصيحتي للطلبة، أنتم في الجامعة فكروا في التخصص الذين تجدون أنفسكم فيه، وتجدون شغفكم فيه، تعلموا من أجل أنفسكم وليس من أجل الآخرين. ونصيحتي للمجتمع، ليكن الطالب محور اهتمامنا فهو قلب العملية التعليمية.