Skip to main content
x

الطريق من بيرزيت إلى كامبردج- فريال منصور تكر

كان التحاقي بجامعة بيرزيت حلماً جميلاً يراودني حين كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، ولكن ظروفي في تلك الأيام كانت صعبة على الصعيدين المالي والاجتماعي، لذا، التحقت بمعهد تدريب المعلمات (الطيرة)، وحصلت على دبلوم تدريس العلوم. وعملت كمعلمة ثم مديرة في مدارس وكالة الغوث.
وبقي الحلم دفيناً في عقلي وفي قلبي، حتى سمعت عن فتح باب التسجيل لمعلمي الدبلوم للالتحاق ببرنامج التأهيل لمعلمي الدبلوم بتمويل من الاتحاد الأوروبي. كانت هذه طاقة الأمل التي مكنتني من تحقيق حلمي، فالتحقت بكلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية في جامعة بيرزيت أخيراً.
بدأت رحلتي الطويلة بكل ما فيها من تحديات جميلة. كنت أداوم في المدرسة صباحاً وبعد الظهر أداوم في الجامعة. لقد فتحت جامعة بيرزيت أحضانها لي واستشرفت آفاق المستقبل بما قدمته لي من فرص لا يتسع المجال لتعدادها، أذكر على سبيل المثال لا الحصر:

  1.    فرصة التعلم الثرية التي أتاحت لي المجال لدراسة الأدب العالمي وبالأخص الأدب الإنجليزي بعراقته وعمقه، سواء المسرح والدراما والرواية والشعر والقصص، شاملة مجموعة من عباقرة الأدب، بمن فيهم تشوسر وشكسبير وإرنست همنغواي وجورج أورويل، والشعراء أمثال وليامز ورد سميث وإليوت وييست وجون ملتون، وغيرهم.
  2.   تلقي العلم والمعرفة من نخبة من عباقرة الأدب واللغويات والتربية الفلسطينيين أمثال د. فهمي العابودي ود. أحمد حرب ود. باسم رعد ود. وفاء درويش من كلية الآداب، ود. ماهر حشوة من كلية التربية، بالإضافة إلى نخبة من المحاضرين العالميين من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ما أثرى لغتي الإنجليزية، إضافة إلى التعمق في مختارات الأدب والثقافة العالمية القديم منها والحديث.
  3.  الاندماج في مجتمع الطلبة الفلسطينيين المثقفين والمنفتحين على ثقافات العالم، والمشاركة في الأنشطة الطلابية التي جذبتني للمشاركة بها، لما تجسده من قيمة علمية واجتماعية وثقافية، وذلك رغم ضغط الوقت، حيث كنت معلمة في الصباح وطالبة في الفترة المسائية، إضافة إلى عملي مع منتدى العلماء الصغار في رام الله، ومن ثم قضاء ما تبقى من وقتي للدراسة.
  4. التعرف على مجموعة من الأصدقاء والصديقات الذين ما زلت أعتز بصداقتهم حتى الآن، حيث أصبحت هذه الصداقات عائلية، وستبقى كذلك مدى الحياة. 

كانت دراستي للغة الإنجليزية وآدابها في جامعة بيرزيت نقطة انطلاق لي لاستكمال دراساتي العليا في بريطانيا بثقة عالية، من حيث اللغة، فقد تطورت لغتي الإنجليزية وأهلتني لاجتياز امتحانات القبول في جامعة بيرمنجهام، التي تعد من الجامعات العشر الأولى في مجال التربية في المملكة المتحدة، ورغم صعوبة اللهجة الـBirminghamise)) كما يسمونها هناك، إلا أن ثقتي بقدرتي اللغوية مكنتني من الحصول على الماجستير في التربية دون أي أخطاء لغوية، وكان لدراستي وانخراطي في اكتساب المعرفة والقدرة البحثية التي أدين بها لجامعة بيرزيت في صقلها أثر كبير، حيث مكنتني من تقديم البحث في وقت قياسي وبامتياز. 
أود أن أشاركم أن أول مغامراتي في بريطانيا كانت السفر في إجازات نهاية الأسبوع لزيارة الأماكن التي درست عنها في جامعة بيرزيت من قصص وروايات ومسرحيات كانت تعيش معي طوال الوقت، مثل زيارة البيت الذي ولد فيه شكسبير وكتب مسرحياته، والكثير من الأماكن التي وردت في قصص تشارلز ديكنز وبرج لندن والقلاع والقصور القديمة التي ما زالت قائمة تشهد على حضارة عميقة الجذور.
وكان هذا النجاح بمثابة ولادة لتحدٍّ جديد عزمت على اجتيازه، وهو الاستمرار في الدراسات العليا والحصول على الدكتوراه، ولكن وضعي المالي والتزاماتي العائلية كانت التحدي الأكبر، وليس من الممكن أن أحصل على منحة دراسية كوني فلسطينية. فلجأت إلى مؤسسة كريم رضا سعيد التي لها الفضل التام في حصولي على منحة الماجستير في جامعة بيرمنجهام، وفوجئت بأن حصولي على منحة كاملة للدكتوراه مشروط بقبولي في واحدة من جامعتين في بريطانيا هما: جامعة كامبردج أو جامعة أوكسفورد.
قضيت ليالي كثيرة أفكر في هذا التحدي الكبير، إلى أن اهتديت إلى فكرة أدركت فيما بعد أنها كانت مفتاح التحدي ووجه الخير، كما نقول بلغتنا الفلسطينية.
كان الموضوع الذي يشغل ذهني والذي كنت جادة في دراسته هو موضوع رعاية الموهوبين والمبدعين، وما أكثرهم في مدارسنا، ولكنهم للأسف لا يحظون بالدعم الذي يلبي احتياجاتهم ويعزز قدراتهم، وبالتالي لنا أن نتخيل حجم الخسارة الناجم عن ضياع هذه المواهب في فلسطين. ومن هنا بدأت بدراسة الكتب التي تتحدث عن الإبداع وبملاحظة طالباتي في المدرسة إضافة إلى مراجعة مواد التربية ومواد اللغة الإنجليزية التي درستها في جامعة بيرزيت، حتى شعرت أني جاهزة لكتابة مقترح دراسة الدكتوراه المكون من 2000 كلمة وفقاً لشروط القبول في كل من جامعتي كامبردج وأوكسفورد. وأكملت استيفاء باقي الشروط. 
مرة أخرى، منحتني جامعة بيرزيت ثقة عارمة للتواصل مع جامعة كامبردج أولاً وإرسال طلب الالتحاق بالجامعة. وبعد أسبوعين، تلقيت مكالمة من مكتب قبول الطلبات في جامعة كامبردج.
وكانت مقابلة أجمل ما فيها إطراؤهم على مستوى اللغة الإنجليزية المستخدم في صياغة العرض، وعلى مستوى لغة المحادثة معهم. وأخبروني أني لست بحاجة للتقدم لامتحان اللغة الإنجليزية. وهذا زاد اعتزازي بجامعتي، بيرزيت.
بعد شهر تموز 2001، تلقيت إيميل القبول الذي سبب لي موجة من الدموع لا أدري هل كانت دموع الفرح أم دموع الخوف من أن يكون هذا مجرد حلم. قرأت الإيميل أكثر من 10 مرات. وبعدها مباشرة أرسلت الإيميل لمؤسسة كريم رضا سعيد، الذين غمروني بكرمهم وقرروا مكافأتي بمنحة كاملة لتغطية كافة تكاليف الدراسة للدكتوراه والسكن والحياة وحتى نفقة المؤتمرات.
بعد أسبوع واحد فقط، تلقيت القبول من جامعة أوكسفورد، ولكني اعتذرت بسبب قبولي الرسمي في كامبردج. وفي شهر آب 2001، استقلت من عملي كمديرة مدرسة وبدأت استعدادي لمرحلة جديدة من حياتي.
قبل سفري بأسبوع، زرت جامعة بيرزيت، وتجولت بين أبنيتها، واجتمعت ببعض الأصدقاء لنسترجع ذكرياتنا ولأودعهم، ثم سافرت إلى لندن في 25 سبتمبر 2001.
ومن هنا بدأت مرحلة جديدة من حياتي، حيث درست ماجستير فلسفة البحث التربوي بتقدير B+ وتأهلت للدكتوراه. كانت رحلة شاقة ولكني استمتعت بكل لحظة فيها. كنت كلما شعرت بالحنين أو الخوف أو ضغط الدراسة، أتأمل في مطرزة شجرة الزيتون المتوجة باسم جامعة بيرزيت، حيث كانت تعطيني الثقة وتريحني، وكنت أشعر بالطاقة الإيجابية التي تدفعني للعمل على البحث والسهر طوال الليل، لأني شعرت بمسؤوليتي تجاه هذه الجامعة التي أوصلتني إلى كامبردج. بالمناسبة، كانت دراستي تتناول تحليل ومقارنة التعامل مع الموهوبين بين فلسطين وبريطانيا، فقضيت 6 أشهر بين مدارس جنين ونابلس ورام الله في 2002. وكانت رسالة الدكتوراه 95000 كلمة، ولم تحتوِ على خطأ لغوي واحد. شكراً جامعة بيرزيت، وشكراً أساتذتي. إضافة إلى ذلك، لم تكن لدي أي تعديلات، رغم أن الممتحنين كانوا من أهم خبراء أوروبا في رعاية الموهوبين، تترأسهم الباحثة البريطانية الشهيرة في موضوع الإبداع البروفيسورة جون فريمان.
أثناء دراستي في الجامعة، تم اختياري للعمل كباحث مساعد في كلية التربية في جامعة كامبردج للإشراف على مجموعة من المعلمين البريطانيين من طلبة الماجستير، كما أشرفت على مجموعة من طلبة الدكتوراه. وقبل استكمال رسالة الدكتوراه، تم اختياري كباحثة للعمل (20 ساعة في الأسبوع) من قبل إحدى كبرى شركات التربية والتكنولوجيا في بريطانيا (Tribal Education & Technology Group). وبعد اجتيازي لفحص الدكتوراه، قامت هذه الشركة بالتقدم لوزارة الداخلية البريطانية واستخدمت 3 محامين أخصائيين في هذا المجال لاستصدار إذن عمل والسماح لي بالعمل في الشركة. وبعد 6 أشهر، حصلت المعجزة، وتمكن المحامون من استصدار إذن عمل لمدة 3 سنوات.
استقرت بي الحياة في مدينة كامبردج، وتابعت عملي بنجاح، واشتريت شقة جميلة ترحب باستضافة طلبة جامعة بيرزيت الذين يحتاجون للسكن معنا. وبعد حصولي على الجنسية البريطانية، اتخذت مسار الاستشارات التربوية في مجال الموهوبين، وعملت مع شركات ومؤسسات عالمية في أوروبا والشرق الأوسط، وحاليّاً أعمل كخبيرة مختصة في وضع السياسات والخطط الاستراتيجية الوطنية لرعاية الموهوبين مع وزارة التربية والتعليم في دبي. 
وما زالت مطرزة شجرة الزيتون متوجة باسم جامعة بيرزيت معلقة على الحائط في بيتي في كامبردج، وستبقى لتذكرني بأصلي ومصدر قوتي.
نصيحتي للطلبة، وخاصة الطالبات: لا تتخلوا عن أحلامكم، اعملوا المستحيل لتعيشوا هذه الأحلام، لا تستسلموا، وستكون دراستكم في جامعة بيرزيت مصدر قوة وثقة يوصلكم لتحقيق أحلامكم.
حفظكم الله ورعاكم، وأدام هذه الجامعة العريقة شعلة علم تشع على كافة أنحاء العالم.