Skip to main content
x

نبيل مزبر- دخلت إلى الجامعة (مكرهاً) وخرجت منها (مكرهاً)

حكايتي مع جامعة بيرزيت طويلة جداً، قد أكون أحد القلائل الذين مرّوا بهذه التجربة والتي امتدت على مدار 47 عاماً بدون انقطاع، والمقصود هنا منذ أن التحقت بها طالباً ولغاية ما تركت العمل فيها موظفاً لم أبتعد عنها. هناك زملاء تركوها وذهبوا لإكمال دراستهم العليا أو عملوا في داخل الوطن أو خارجه ثم عادت بهم السبل إليها.

لا أبالغ حين أقول لو قدّر لي أن أكتب عن تجربتي فيها خلال تلك السنوات لكتبت مجلداً عنها.

في عام 1972، تم الإعلان أن كلية بيرزيت سيتم إعلانها جامعة في فلسطين وسيتم ذلك خلال سنتين، خلال تلك الفترة كنت قد بدأت دراستي الجامعية في القاهرة وفي العطلة الصيفية حضرت لزيارة الأهل ولم بدر بخلدي أن الزيارة تلك ستكون النهاية لإكمال تعليمي في جامعة القاهرة.

لاعتبارات عائلية قررت العائلة أنه طالما كلية بيرزيت ستصبح جامعة فلماذا الذهاب إلى القاهرة لدراسة التجارة والاقتصاد وسيكون هذا التخصص موجوداً في بيرزيت، بالطبع رفضت ولكن القرار كان حاسماً، إما البيت أو بيرزيت، وطبعاً البقاء في البيت صعب جداً، فخضعت للأمر والتحقت بها مكرهاً.

في تلك الفترة كان عدد الطلبة المسجلين للسنة الأولى ما يقارب 240 طالبة وطالب، وكان عدد آخر في الصف الجامعي الثاني الذين سيتخرجون من الكلية ويغادرون إلى سوق العمل أو إكمال دراستهم في الخارج أو الانتظار حتى تبدأ الجامعة سنتها الثالثة ليعودوا لمقاعد الدراسة فيها.

حاولت التأقلم مع وضعي الجديد بصيغة المقولة أن (الحب يأتي بعد الزواج) وتدريجياً خلال تلك الفترة تعرفت على العديد من الزملاء وتطورت العلاقة إلى أن أصبحنا أصدقاء، خاصة مع الزملاء الذين يسكنون في القسم الداخلي لأننا نمضي وقتاً أطول مع بعض، خاصة في فترة العشاء والليل، ونسكن وننام بنفس الغرفة. الوضع أصبح مقبولاً لي وبدأت بتقبل الواقع وهو بيرزيت وليس البيت.

بالرغم أننا كطلبة كنا خليط من المجتمع الفلسطيني منا ابن المدينة وابن القرية وابن المخيم، وكل واحد يحمل ثقافة البيئة التي قدم منها، إلا أننا لم نشعر بهذا الفارق بيننا، فقد جمعتنا الجامعة كزملاء، تواجدنا فيها لهدف مشترك وهو نهل العلم الجامعي داخل الوطن، فالتعليم الجامعي بالخارج يكلف مادياً أكثر من الداخل وليس من السهل الالتحاق بالجامعات وخاصر لغير المقتدرين مادياً الذين وجدوا ضالتهم في جامعة بيرزيت، بالإضافة إلى اطمئنان الأهالي لوجود أبنائهم بقربهم إذا أرادوا الالتحاق بتخصصات موجودة في بيرزيت.

كان التدريس في تلك الفترة لجميع المواد عدا مواد اللغة العربية تُدرس باللغة الإنجليزية، وكانت الصعوبة لطلبة المدارس الحكومية وليس القادمين من مدارس أهلية أو خاصة، فكان البرنامج الأول تحضيرياً لتقوية الطلاب باللغة الإنجليزية، وبعد عدة سنوات تم إدخال التعريب إلى الجامعة حيث أصبحت المواد مخلوطة من اللغتين.

الحياة الجامعية حينها كانت جميلة والسبب بذلك قلة عدد طلاب الجامعة حيث كنا نعرف بعضنا وإن لم نكن أصدقاء. فعدد الطلبة في الصف كان يتراوح بين 7 إلى 15 طالبة وطالب، إلا في محاضرات الدراسات الثقافية، فكان العدد يزيد نتيجة لجمع الشعب مع بعضها البعض في قاعة الاجتماعات.

عدد المدرسين كان قليل بشكل يتناسب مع عدد الطلبة في المادة الواحدة وكان هناك عدد من المدرسين الأجانب لبعض المواد العلمية في كلية العلوم والاقتصاد وإدارة الأعمال واللغة الإنجليزية في كلية الآداب.

العلاقات الاجتماعية كانت ممتازة بين الجميع وخصوصاً بين طلبة القسم الداخلي، حيث يسكنون مع بعضهم ويأكلون مع بعضهم وينامون في نفس المنزل، وهذا كان سبباً في توطيد العلاقات والصداقة بين الجميع سواء في منازل الطلاب والطالبات، بحيث أصبحنا كالأخوة ونشعر مع بعضنا في أفراحنا وأتراحنا وهمومنا. كانت غرف النوم تستوعب من شخصين إلى 6 أشخاص كأنهم في بيوتهم. كان ما يميز منازل الطلبة النشاطات الترفيهية والاجتماعية التي تقام باستمرار خاصة في فترة المساء من مسابقات وعروض أفلام وغيرها.

ومن ناحية أخرى كانت تقام بالجامعة نشاطات لها اسمها وقيمتها آنذاك، مثل المعرض العلمي وسوق عكاظ السنوي الذي كان مقصداً طلبة المدارس والزوار.

أما عن المساعدات المالية في تلك الحقبة لم يكن للبنوك وجود وكانت المساعدات والمنح تقدم من الجامعة مباشرة، أو من بعض الجمعيات الخيرية حينها، أذكر منها الجمعية المسيحية الدولية التي كانت تغطي تكاليف التعليم وتشترط أن يقوم الطالب بعد التخرج بتسديد ما صُرف عليه حسب اقتداره ليتمكن طالب آخر الاستفادة من المساعدات وهكذا.

وكذلك قدمت الجامعة فرصة للكثير من الطلبة للاستفادة من المساعدات النقدية وهي لغير المقتدرين من خلال القيام بأعمال مقابل ساعات تدفع مالياً لهم، ومن هذه الأعمال، التنظيف وتحضير موائد الطعام وغسل الأواني بعد الأكل والعمل بالمكتبة خلال دوام وبالليل حيث كانت المكتبة تفتح لغاية الساعة العاشرة مساءً.

العلاقة بين الطلبة والإدارة والمدرسين والعاملين كانت رائعة لأنها مبنية على الاحترام المتبادل وتصل لحد الصداقة ذات حدود، كبار السن كانوا يعاملوننا كأبنائهم والأصغر سناً كإخوة لهم. ولكن كنّا نحسب حساباً لهم خاصة كبار السن، لدرجة أننا كنا نتجنب أن يشاهدونا في بعض الأماكن.

في ذلك الوقت بدأت التحركات لبعض التنظيمات على الصعيد الوطني وصار في الجامعة مجالس الطلبة المنتخبة من قبل الطلبة وبالطبع كان المنغص الوحيد هو الاحتلال الذي يقوم بأعمال همجية من مداهمات واعتقالات واغلاقات بعدما أصبحت الجامعة مركز وعنوان للعمل الوطني في الضفة وغزة والمحرك الأول على صعيد الوطن. وكان أشرس الأعمال إبعاد رئيس الجامعة ونفيه لخارج الوطن، والجميع يعرف مسلسل الإغلاقات التي تعرضت لها الجامعة على مدار سنوات طويلة فالجامعة ضربت رقماً قياسياً بإعداد الاغلاقات التي مارسها الاحتلال عليها.

مرت السنوات الأربعة وكان الحدث التاريخي الأول في فلسطين هو تخريج الدفعة الأولى لطلبة البكالوريوس من أول جامعة فلسطينية على أرض فلسطين. وبدأت الاستعدادات لإقامة الحفل الذي تقرر أن يقام على أرض ملعب كرة السلة في الحرم القديم، شاركت فيها بتزيين موقع الحفل.

وكان لا بد أن يُرفع علم فلسطين وهو أمر له عواقبه عند الاحتلال، فخطر ببالي أن أصنع علماً للجامعة يحتوي على ألوان العلم الفلسطيني، وبليلة واحدة تم تحضير ما يلزم من "شرشف" أبيض وبعض ألوان الدهانات ورسمت العلم الذي يحتوي على شجرة الزيتون (شعار الجامعة) مع بعض الخطوط بالأسود والأحمر (قصة علم الجامعة)، وتم رفع العلم الذي أفتخر بتصميمه وعمله والذي أصبح من حينها علم الجامعة الرسمي. وتم تخريج الفوج الأول في تموز علم 1976.

افترقنا عن بعضنا، منّا من بقي في الوطن ومنّا من غادر لإكمال تعليمه، ومنّا من خرج للبحث عن عمل.

حياتي العملية بدأت حيث حصولي على وظيفة في الجامعة في أيلول من ذات العام 1976، وكانت مساعد لمدير التسجيل لمدة سنتين حتى العام 1978، ثم انتقلت كرئيس لقسم المطبوعات حيث عملت على تأسيس القسم وتطويره ليفي باحتياجات الجامعة من مطبوعات ورقية، وطباعة كتب للمواد التدريسية، بالإضافة إلى طابعة كتب ومنشورات لمركز أبحاث الجامعة وتم تزويده بالمعدات اللازمة للقيام بالعمل داخل الجامعة والاستعانة بالمطابع الخارجية لما يلزم من طباعة لا يمكن إتمامها داخل الجامعة لاعتبارات فنية.

خلال تلك الفترة توليت مهام إضافية لإدارة منازل الطلبة في رام الله في فندق قصر الحمراء وفندق رباح. وأيضا وفي هذه الفترة تقرر البدء ببناء الحرم الجامعي الجديد على مشارف بلدة بيرزيت، وكان من مهامي متابعة تصوير مراحل البناء بدءً في مبنى كلية العلوم وإرسال الصور بشكل دوري لرئيس الجامعة المبعد في عمان بالأردن، حيث استعنت بأحد المصورين المحترفين من القدس ليقوم بالمهمة، واستدعيه كلما ارتفع عدد (المداميك) واستمر الحال من مبنً لأخر في الحرم الجديد لحين عودة الرئيس من الإبعاد للوطن.

بعد ذلك انتقلت لتأسيس وإدارة قسم النشاطات العامة في الجامعة، والذي كانت مهمته متابعة وتجهيز النشاطات الرسمية للجامعة من مؤتمرات ومعارض وغيرها لعدة سنوات. ثم كانت المحطة الأخيرة، وهي تأسيس قسم السلامة العامة وتطويره ومتابعة جميع أمور السلامة العامة والحماية لمجتمع الجامعة، بشراً وحجراً وشجراً، وبقيت بهذا المنصب لغاية 30/8/2017، حيث أنهيت خدماتي بالجامعة لبلوغي السن القانوني حسب قانون الجامعة.

بعد هذه السنوات الطويلة، أعود لكلمتي بأنني دخلت إلى الجامعة (مكرهاً) وخرجت منها (مكرهاً) واقتنعت بالمقولة بأن (الحب يأتي بعد الزواج) وهي الفترة الطويلة التي قضيتها بالجامعة.

كلمتي للزملاء الخريجين وتحديداً من عام 1976 ولغاية 1995، أن الجامعة حالياً ليست كما تعرفونها، فقد تغيرت كثيراً وكبرت وأصبحت مدينة جامعية يتواجد فيها قرابة 15,000 طالبة وطالب، كبرت مساحتها، وتعددت أبنيتها وطلبتها والعاملين فيها. إن حضرتم ربما لا تعرفون أحدٌ فيها، الأشخاص يتغيرون باستمرار، الطالب يتخرج والإداري تنتهي مدة منصبه والذي يكبر يتقاعد، وهذه هي الحياة.

مع كبر الجامعة فمن الطبيعي أن تحدث تغيرات في بعض المفاهيم التي تعودنا عليها واعتقدنا أنها سوف تستمر، البساطة التي تعرفونها في التعامل قد تغيرت، سواء للطلبة أو العاملين، الأنظمة والقوانين التي كانت تحكم عدة مئات من الأفراد تغيرت للتعامل مع الآلاف، الوضع العام في البلاد تغير وهذا انعكس على الوضع الداخلي للجامعة، المطالب الطلابية والنقابية كانت تُحل بسهولة، والآن أصبحت بصعوبة، وهذا يؤدي إلى ردود أفعال تصل حد الإضرابات والإغلاقات التي تؤثر على المسيرة التعليمية وخسارات مادية.

جيلنا يتذكر أيام الزمن الجميل وهو اصطلاح نسبي، الزمن الجميل أيامنا يختلف كلياً عن الزمن الجميل لمن بعدنا، وهذا يشعر به من عاصر الزمنين، كل شيء تغير إلا شيءٌ واحد هو الأساس الذي قامت عليه جامعة بيرزيت بمبادئها ورسالتها وأهدافها، استمرت فزادت وتطورت واستمر الهدف بأن تُنشِئ جيل من الشباب المثقفين وتهيئهم ليكونوا مواطنين فاعلين لخدمة مجتمعهم ووطنهم.

قارب الآن عدد الخريجين على 50,000 خريجة وخريج، نفتخر كما تفتخر الجامعة بخريجيها الذين برز منهم العلماء والقادة السياسيين والاقتصاديين والمربين الذين استطاعوا رفع اسم في فلسكين في المحافل الدولية والمحلية.

جامعة بيرزيت هي أمنا الثانية، فقد ربتنا وزرعت فينا قيم العطاء والخير والتضحية من أجل الصالح العام، عشنا فيها سنوات عمرنا ورغم البعد عنها بأننا خرجنا منها ولكنها لم ولن تخرج منّا.

شخصياً الجامعة بالنسبة لي هي بيتي وأمي الثانية، ارتبط بها في حالة عشق وحب لا يمكن الشفاء منها.