Skip to main content
x

اشتري مكاناً في بيرزيت- نضال حمد

نضال لافي سعيد حمد، ولد في العام 1967، سماه والده نضال تيمنًا بتاريخه التعليمي الصعب حيث عانى الكثير حتى وصل لمنصب مدير مدرسة رامين الثانوية- محافظة طولكرم، وقبلها كان قد عمل مدرسًا معظم حياته في مدرسة عنبتا الثانوية وقد كان مدرسًا للعديد من الأساتذة الحاليين في جامعة بيرزيت الذين كانوا يقطنون في بلدة عنبتا- محافظة طولكرم.

"قريتي رامين قرية محبة للتعليم وقد خرجت الكثير من العلماء والمفكرين، فمنهم 23 عالم استقروا في بغداد يعرفون بـ "آل شمس الراميني" وكان من بينهم أحد المفكرين الذين فاوضوا هولاكو عندما اقتحم دمشق. أما بالنسبة لوالدي كان وحيد والديه وفي عمر العشر سنوات اضطر لترك المدرسة بسبب فقدان والده للبصر في حادث. بعد سنتين من ترك الدراسة تمكن من العودة للمدرسة ولكن بشرط شراء مقعده الذي سيجلس عليه مما اضطر العائلة لبيع قطعة من الأرض حتى يتمكنوا من شراء المقعد الخشبي وحمله على ظهره ودخل إلى مدرسة عنبتا. ولهذا كان التعليم بالنسبة لوالدي رسالة ورحلة نضال كبير وأصر تسميتي نضال وأنا البكر بين اخوتي الذكور وأصبح التعليم هاجسا كبيرة في العائلة.

أنهيت مرحلة التوجيهي من مدرسة الفاضلية في طولكرم في العام 1985، ودخلت جامعة بيرزيت، وكانت رغبتي بدراسة الهندسة الكهربائية ولم تكن هذه الجامعة خياري، كانت رغبتي بالدراسة في الخارج ولكن كان هناك قرار عسكري في حينها يمنع أي شاب يخرج خارج البلاد من العودة قبل انقضاء مدة تسعة شهور في الخارج، لذلك كان السفر صعبًا على الشباب، تم قبولي في الجامعة الأردنية في تخصص الهندسة المعمارية ولكن لم تكن تلك رغبتي، ولذلك التحقت بجامعة بيرزيت لدراسة الهندسة الكهربائية، في السنة الأولى من الدراسة شعرت بغربة شديدة في الجامعة حيث أحسست بفجوة ثقافية بين محافظتي طولكرم ورام الله وهذه الفجوة في حينها أحس بها كل من ينتقل من محافظة بعيدة الى رام الله. في الفصل الأول حاولت جاهدًا اقناع والدي بالسفر للأردن ولكنه قابل ذلك بالرفض، في الفصل الثاني بدأت الأوضاع بالتغيير وقاربت من الحصول على مرتبة الشرف في الجامعة، والتي كنت حصلت عليها في كافة الفصول اللاحقة.

أحببت جامعة بيرزيت، التي تميزت في فترة الثمانينات بأنها شعلة من شعل النضال عشت فيها الإغلاقات بالأوامر العسكرية، وأكثر ما شدني للجامعة أجواءها وتلك العلاقة الحميمية الشفافة داخل قاعات الدرس، فقد كان عدد الطلبة قليل داخل المحاضرات بالتالي الطالب كان يأخذ حقه في المحاضرة مع المدرس، وكذلك العلاقة نفسها التي وبالرغم من الجو السياسي المشحون في تلك الفترة والأحزاب المتأصلة في العمل السياسي حيث كانت الحركة الطلابية رائدة في الحراك السياسي فقد كان الصف متجاوزاً لكل الفروقات السياسية فلا فرق بين أخضر وأحمر وأصفر، في المحاضرات كانوا كلهم زملاء وأحبة والود كان سيد الموقف في المحاضرات ولا فجوة بين الطلبة والمدرسين، فالحوار بين الأستاذ والطالب راقي ورائع.  في نظام في بيرزيت كان كل يعرف حدوده تماما من أساتذة وطلبة وإدارة الجامعة، فالتعامل كان شفاف، حتى جو الانتخابات مع كل احتدامه إلا انه كان قائم على أساس الاحترام.

بيرزيت مرعبة أكاديمياً، ففي فترة الامتحانات خاصة عند امتحان الفيزياء والرياضيات كان كل من يدخل الجامعة يلحظ التوتر العام السائد بسبب الامتحان، فقد كانت العلامات حقيقية وهدف بيرزيت تخريج جيل متميز ومتمكن من الطلبة. أما المواد التي صقلتنا فكرياً وشخصياً فكانت مواد اللغة العربية والدراسات الثقافية، فيها تعلمنا كيف نفكر وكيف نخاطب ونحاور الاخرين، تعلمنا فيها كيف نتقبل الرأي الآخر وكيف نحاجج بناءً على الطرح المنطقي. فالتعليم كان السلاح الذي نواجه به العالم. بيرزيت علمتنا كيف نكتب وكيف نفكر ومن الأساتذة الذين صقلوا كثيراً من شخصيتي كان الدكتور خالد نجم، الذي علمنا أن نطرح كل مشاكلنا بالكتابة.

تعددت إغلاقات الجامعة بأوامر عسكرية في تلك الفترة وانقطعنا عن الدراسة مدة سنتين ونصف تقريبًا، وأصبح لدى الشباب توجه عام بالهجرة أو الانتقال لجامعات أخرى بسبب هذا الانقطاع القسري عن الدراسة، ولكن بسبب القرار السياسي بمنع الطلبة من الالتحاق بجامعات أخرى ومن السفر ورغم محاولات والدي نقلي إلى جامعة أخرى إلا أننا عدنا وأكملنا مشوار الدراسة في بيرزيت. في البداية كان من الصعب علينا إعادة الالتحاق، ففينة درسنا في المطران في القدس وفينة أخرى درسنا في قصر الحمراء وسكن أساتذة جامعة بيرزيت في سطح مرحبا- رام الله. ولا زلت أذكر الأيام التي درسنا فيها في منزل الدكتورة إصلاح جاد. كنا نخشى أن نحمل الكتب علنا في الشارع حتى لا نتعرض لعقوبات الاحتلال. وفي العام 1991 عدنا وانتظمنا في المقاعد الدراسية في الجامعة.

تخرجت من الجامعة في العام 1992، بشهادة في الهندسة الكهربائية وقد كنت واحداً من خمسة طلبة حصلوا على الامتياز في ذلك العام، وقبل تخرجي بشهرين كنت قد حصلت على فرصة عمل حيث قام الدكتور خالد نجم بترشيحي لوظيفة مع مشغل محلي يعمل في مجال إعداد المختبرات الهندسية، كنت قد فكرت في السفر ولكن فرصة العمل هذه أغنتني عن هذه الفكرة. وما زلت حتى الآن أعمل في نفس المجال.

تزوجت وزوجتي مهندسة معمارية تخرجت من جامعة النجاح، والآن ابني أحمد يدرس في جامعة بيرزيت تخصص هندسة أنظمة الحاسوب وهو على قائمة الشرف للعام الثاني على التوالي، وابنتي الثانية في الصف الحادي عشر الآن وتنوي استكمال تعليمها الجامعي في جامعة بيرزيت في تخصص صيدلي دكتور. في العام 1999 أكملت دراستي العليا في جامعة النجاح وقد حصلت على شهادة الماجستير في تخصص تخطيط الطاقة الكهربائية الذي لم يكن متوفراً في ذلك الوقت في جامعة بيرزيت.

مرتبة الشرف كانت تعني لي الكثير خاصة في وضع والدي المادي الذي كان لديه 8 أبناء ما بين طلبة مدارس وطلبة جامعيين كنت أوفر القسط الدراسي على والدي، وهو ما ساعدنا كثيراً، وعند دخول ابني الجامعة لاحظت أن لائحة الشرف تحوي عدد كبير من الطلبة، فاقترحت على ابني أن نقوم بالمساهمة في دعم طلبة محتاجين في الجامعة وأن يتنازل عن قيمة مرتبة الشرف المادية، تيمناً بفكرة رسخها والدي في نفسي وهي "علّم طالباً، تنقذ عائلة"، فهي التجربة التي عاشها والدي الذي كافح حتى تخرج من جامعة دمشق بتخصص الفلسفة وعلم الاجتماع في العام 1965.

في وقت سابق هذا العام، وفي كلمة للزميل صادق جرار نيابة عن الخريجين، في لقاء الخريجين في دولة الامارات، اختتم جرار بعبارة "اشتري زمناً في بيرزيت"، وأنا اليوم أريد إكمالها بـ "اشتري مكاناً في بيرزيت" حتى تنقذ عائلة.

وفي الختام أوجه رسالتي إلى كل خريج فلسطيني، بأن يقدم ما استطاع لتبقى منارات جامعاتنا مشتعلة، فسلاحنا العلم وهذا ما وقفنا به أمام العالم. وأما لبيرزيت التي شربنا من مياهها أقول بأن زيتونها أخضر وذهبها أصفر.