بيرزيت ورحلتي في صقل شخصيتي وقناعاتي السياسية والفكرية والوطنية
التحقت بجامعة بيرزيت في العام 1981، وتم قبولي في كلية التجارة، لكن اهتماماتي كانت مختلفة، فانتقلت إلى دائرة علم الاجتماع في كلية الآداب والتي ضمت العديد من كوادر الحركة الطلابية، فكان بالنسبة لي عامل جذب أكبر خاصة في الجانب الثقافي والمعرفي والاحتكاك مع طلبة وكوادر وأساتذة لهم اسهاماتهم الفكرية والثقافية والمعرفية، مما عزز من قناعتي بدراسة هذا التخصص الذي لا يوفر فقط حيزاً للمعرفة العلمية بالعلوم الإنسانية بل وفر هامشاً أوسع للدائرة الثقافية، فمن خلال البرنامج كنا دوماً نتبادل النقاشات والمقالات والمعرفة ووجهات النظر والرأي والرأي الآخر، وكنا عادة ما ننقل نقاشات المحاضرات إلى الكافتيريا التي كانت تشهد لقاءات ساخنة فكرياً وثقافياً ذات طابع أيديولوجي وسياسي واجتماعي وحزبي.
عند التخرج وبسبب نشاطي السياسي، تعرضت لتضييقيات من قبل الاحتلال، ففي العام 1985 تم اعتقالي بحجة أنشطة طلابية، وفي العام 1986 فرضت عليّ الإقامة الجبرية. أما في العام 1987 فانطلقت شعلة لانتفاضة الفلسطينية الأولى والتي كان لطلبة جامعة بيرزيت دور بارز فيها. ونتيجة لإغلاق الجامعة القصري عدت إلى غزة وعناك جرى اعتقالي مدة عامين في سجن النقب الصحراوي. لأكمل بعدها رحلتي التعليمية في جامعة بيرزيت وأتخرج في العام 1991.
بدأت حياتي المهنية في مركز القدس للإعلام والاتصالات، وهناك تعلمت المزج بين الجانب السياسي والجانب المهني، وفي ذات الوقت حصلت على منحة إلى بريطانيا لأتعلم في مجال التنمية البشرية، ويبدأ بعدها مسيري المهني في غزة، حيث عملت في برنامج الأغذية العالمي وهو أحد البرامج التي ترعاها الأمم المتحدة. انطلقت في رحلتي في العمل الأهلي ومؤسساته فكنت مديراً لفرع المركز العربي للتطوير الزراعي، وتم انتخابي كعضو هيئة تنسيقية لشبكة المنظمات الأهلية في غزة في العديد من دوراتها حتى الآن. إضافة إلى أنني أنجزت العديد من أوراق العمل والدراسات وبعض الكتب التي تتناول موضوعات ذات علاقة بالمجتمع المدني والتنمية والاقتصاد والشباب والمرأة وقدمت العديد منها في ورش عمل ولقاءات.
بيرزيت شكلت محطة مهمة في حياتي، باتجاه صقل الشخصية وتعزيز القناعات الفكرية والسياسية والوطنية لدي، فكنت من النشطاء في المجال الفكري والمعرفي والتنويري والسياسي، سواء بالمناظرات الفكرية بين الكتل والتي كانت تجري بصورة ديموقراطية ومضبوطة، أو من خلال الأنشطة والمواقف التي تتخذها الكتل الطلابية والتي تتعلق بما يحصل في الوضع السياسي العام في فلسطين، فمثلا في العام 1985 وقفت مجموعة من الكتل الطلابية وتوحدت في وجه مؤتمر عمان الذي كان يطرح فكرة إقامة كونفدرالية في فلسطين قبل إنهاء الاحتلال ويشكل تراجعاً عن مرتكزات العمل السياسي والوطني. علاوة على الفكر الوطني والسياسي الذي زرعته بيرزيت في طلبتها، فقد شكلت حاضنة للتشبيك والعلاقة الحيوية بين الطلبة.
كانت تجري الانتخابات بشكل دوري في الجامعة، والمناظرات عادة ما تأخذ الشكل السياسي والاجتماعي والحقوقي، ولم تركز على الجانب السياسي، بل كانت تركز على حقوق الطلبة من تخفيض رسوم الساعة الدراسية، والحرية الفكرية في الجامعة ومستلزمات الطلبة، وحرية العمل النقابي، وهو مناخ عام كانت توفره جامعة بيرزيت، فقد كان للحركة الطلابية حرية تنظيم المعارض والندوات والنقاشات والمؤتمرات والمهرجانات، مما ساهم في رفع قيم التعددية والتسامح وتقبل الآخر وإدارة الاختلاف بصورة حضارية.
كان تخفيض رسوم الساعات الدراسية وتوفير المنح الطلابية هو الهاجس الأكبر لدى الكتل الطلابية للعمل عليه، وعادة ما حاولت الحركة الطلابية رفع مطالب كبيرة كمجانية التعليم وديمقراطيته كهدف ونسعى من خلال الفعاليات المختلفة بالسير نحو تحقيقه وقد نجحنا في توفير العديد من المنح الدراسية للطلبة الأقل مقدرة على الدفع وكذلك نجحنا في حين آخر في تحقيق خفض الرسوم.
لقد كانت إدارة الجامعة على قدر كبير من الوطنية والمهنية والتفهم لكثير من نضالات الطلبة، فلم تمانع المهرجانات الجماهيرية لانطلاقة إحدى الفصائل أو فعاليات ذات طابع فني وثقافي واجتماعي وكانت كلها تحت رعاية عمادة شؤون الطلبة بشكل منظم بعيد عن العشوائية.
معظم خريجي بيرزيت ناجحين في مجالات عملهم المختلفة، سواء كانوا في القطاع الحكومي أو الخاص أو الأهلي، بل يعدون من المتميزين في كل المجالات التي يخوضونها. وقد ساهمت بيرزيت في خلق شبكة تلقائية بين خريجيها، يتواصلون دوماً، وتنكسر بينهم الحواجز سريعاً فهناك ما هو خاص ويجمعهم.
من ذكرياتي في الجامعة، النقاشات السياسية المحمومة في حرم الجامعة القديم، فقد كانت كافتيريا الجامعة منصة للمناظرات بين الكتل الطلابية التي كانت جزء من المشهد اليومي في الجامعة فبين المحاضرة والأخرى، لم يقتصر المشهد على استراحة عادية يمارسها الطلبة أو وقت مستقطع يقضونه في ممارساتهم الاجتماعية بل دوماً ما كان يرافق الذهن أن هناك نقاش حول قضية ما يحرص الطلبة على الاستماع إليه بشغف في الكافتيريا بين الكتل المختلفة. خاصة أنه في ذلك الوقت كانت القضية الفلسطينية تمر بمتغيرات كبيرة من أحداثٍ في بيروت والعدوان على منظمة التحرير وشعلة العمل في داخل فلسطين وتغيرات في سياسة المنظمة وانتقالها إلى تونس، مما خلق مساحة كبيرة للنقاش والجدل والنقد السياسي الذي كان يطغى عليه طابع فكري وأيديولوجي بين المناهج المختلفة والمدارس الفكرية المختلفة فمثلا كان هناك الجدل القائم بين مدرستي الفكر التغيري الماركسي ومدرسة المنهج الوظيفي التي كان يقودها دوركايم. كما أذكر التقليد السنوي الذي كنا نقيمه وهو "أسبوع عرس فلسطين" الذي لا يتضمن فقط فعالية "زفة العروس التقليدية" بل أيضاً مبارزات ومناظرات شعرية وأدبية وهي استكمال لنشاط "سوق عكاظ" في المرحلة التي سبقتنا.
أذكر جيداً موقف صادفنا أثناء العمل التطوعي في أحد قرى بيت لحم، ويومها نصب الاحتلال حواجز في طريقنا، اعتقلنا الاحتلال يومها على خلفية العمل التطوعي ما يقارب 100 طالبة وطالب وقد تم اقتيادنا إلى سجن نابلس ومن سجن نابلس إلى سجن الفارعة، ومن ثم تم الإفراج عنا. وخلال الجامعة كنا نشارك في العمل التطوعي في الناصرة وفي حيفا. ونلتقي بالكتل الطلابية العربية ونفتح معها حوارات وندوات ونقاشات.
في سنوات دراستي في الجامعة شكل طلاب غزة ما يقارب 38% من مجموع الطلبة، واستمرت دراسة طلبة غزة في الجامعات الضفة حتى العام 2000 حيث صدر قرار عسكري بحظر تعليم طلبة غزة في الضفة. كنا نقطن في بلدة بيرزيت إلا أن الاصطفاف الاجتماعي حينها لم يكن بناءً على التقسيم الجغرافي بل كنا نسكن على خلفية سياسية أكثر، فكنا نسكن مع الطلبة الذين يشبهوننا فكرياً أكثر. واليوم يشغل خريجو الجامعة من غزة العديد من الوظائف في القطاعات المختلفة في القطاع وهم ناجحون مهنياً ولا زلنا على تواصل دائم سوياً.
وفي الختام لخريجي جامعة بيرزيت، لا تنقطعوا عن الجامعة واستمروا دوما في تواصلكم معها، وساهموا في توظيف خبرتكم من أجل العلو في الجامعة. حافظوا على علاقتكم ببعضكم واستمروا في نشر التنوير والحداثة والديموقراطية في أوساطكم كلٌ في حيزه وكلٌ في مجاله.