خريجو بيرزيت. ملح الأرض وشمسها المشرقة- وجدي مرعب
المهندس المعماري وجدي مرعب-خريج بيرزيت عام 2006
تقدمت لامتحانات الثانوية العامة في مدينتي حلحول شمال الخليل في العام الدراسي 2000-2001 خلال انطلاقة انتفاضة الأقصى، وقد كان الحلم الذي رعاه والدي -لروحه الرحمة-بدراسة الهندسة المعمارية لغاية في نفسه، يراودني منذ سنوات قبل ذلك، إلى أن أتت ساعة الحقيقة وحصلت على نتيجة الثانوية العامة فتوجهت فوراً إلى جامعة بيرزيت "الحلم"، وكانت الجامعة الوحيدة التي تقدمت بطلب التحاق فيها، ومع حلول منتصف أيلول 2001، بدأ الارتباط الفعلي بالجامعة لينتهي بعد 5 سنوات أو أقل في 20 حزيران 2006.
ما زلت أذكر جيداً الأيام الأولى لالتحاقي بمقاعد الدراسة وشغفي الكبير بالتعرف على الزملاء من مختلف محافظات الوطن وحبي للاطلاع على تفاصيل الجامعة من كليات ومبانٍ ومرافق، وكذلك التعرف على تفاصيل القرية الوادعة "بيرزيت" التي كانت على الدوام تنبض حباً وأصالة وترسم لنا دوماً أروع صور التكامل والتعايش والوئام بين مكوناتها المختلفة، حتى أصبحت بيرزيت بجامعتها العريقة من وجهة نظري "باروميتر" الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وانعكاساً حقيقياً لمزاجه العام وتمثيلاً صادقاً لحالته الفكرية والوطنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
رغم أنني التحقت بجامعة النجاح الوطنية لدراسة الماجستير عام 2010، وحصلت على شهادة الماجستير بامتياز في جامعة شيفيلد في المملكة المتحدة عام 2012، إلا أن جامعة بيرزيت ما زالت تفرض روحها وحضورها الأصيل على كل شيء في حياتي، فقد ظلت بكل تفاصيلها ومكوناتها على الدوام تعبيراً جمالياً استثنائياً لا يضاهيه أي شيء.
في بيرزيت صارت لي أسرة دائمة لا أزال أجد واحداً أو أكثر من أفرادها في كل حل وترحال، وتقريباً في كل مكان حول العالم، وكأنهم ملح الأرض وشمسها المشرقة بتميزهم ونجاحاتهم بارتباطهم ببعضهم وحرصهم على تقديم المساعدة وترك بصمة مشرقة في كل مكان يحلون فيه. مع هذه الأسرة، تقاسمت وما زلت الأمل والألم، الأمل بمستقبل ريادي مشرق واعد لرسم هوية الوطن كل الوطن، والألم لذكريات إخوة أبطال تركونا ولبوا نداء الوطن شهداء على طريق الحرية أو غيبتهم زنازين السجان، وهو بلا شك ألم مغمس بالعزيمة والإصرار نحو تحقيق هدف واحد، هو النجاح والتميز ورسم صورة مشرقة لفلسطين وليس لبيرزيت فقط.
كم كانت فرحتي كبيرة يوم أتيحت لي فرصة المشاركة في التحضير والإعداد لعقد ملتقى خريجي جامعة بيرزيت في الإمارات العربية المتحدة خلال عامي 2018 و2019، الذي كان فرصة كبيرة لتجديد التواصل ولقاء عدد كبير من أفراد الأسرة البيرزينية في مكان واحد وبحضور مميز من إدارة الجامعة ومجلس أمنائها وموظفيها، وعلى رأسهم الصديق الغالي رئيس الجامعة د. عبد اللطيف أبو حجلة.
بيرزيت كانت أكثر من مجرد جامعة، فيها روح المساواة، كنا أسرة واحدة بعدد قليل نسبياً لا يصل الخمسة آلاف طالب وطالبة، نعرف بعضنا جميعاً ولو بالشكل على الأقل، فقد تقاسمنا مقاعد الدراسة دون تميز بين فقير وغني، فلم يكن أبداً الالتزام بدفع الأقساط معياراً للاستمرار على مقاعد الدراسة، وسكنّا جميعاً في سكنات بيرزيت بسبب ظروف الانتفاضة، وتنقلنا بين سيارات الأجرة "الفوردات" وركبنا الحنطور عند حاجز سردا عند المجيء أو الذهاب من وإلى رام الله، كما تقاسمنا ذكوراً وإناثاً طلاباً وعاملين رائحة الغاز المسيل الدموع كثيراً، وكذلك تقاسمنا خطر التعرض للرصاص المطاطي غالباً والمعدني أحياناً خلال المواجهات مع جيش الاحتلال.
في بيرزيت، مزجت بين السعي الجاد للتحصيل العلمي الأكاديمي طامحاً بأن أصبح ذلك المهندس المعماري الناجح كما تمناه والدي رحمه الله وكما حلمت لسنوات، وبين المشاركة الفاعلة في العمل النقابي وتبوء مواقع قيادية في أروقة الحركة الطلابية، التي حملت تجارب استثنائية وتركت بصماتها الواضحة في صقل الذات وحب العطاء وزيادة الوعي وتطوير مفاهيم الشراكة والعمل الجماعي وتقبل الآخر والمنافسة الشريفة في العمل النقابي، خاصةً وقد تعذر إجراء انتخابات مجلس الطلبة خلال تلك الفترة عدة مرات، وهو ما فرض علينا ككتل طلابية العمل كخلية نحل لسد العجز الحاصل من غياب المجلس. وكذلك لا أنسى مشاركتي الفاعلة بأنشطة العمل التطوعي من نشاطات نادي الهندسة المعمارية إلى فعاليات استقبال الطلبة الجدد وتنظيم حفلات الخريجين، حتى تنظيم وتقديم الأمسيات الرمضانية إلى توزيع الطرود الغذائية على السكنات إلى مواسم قطف الزيتون وغيرها الكثير، وهو ما مكنني من جمع ساعات عمل تطوعي أكثر بكثير من الـ 120 ساعة المطلوبة ضمن متطلبات التخرج.
وفي بيرزيت القرية، عشنا كأهل الدار أو أعز، ما زلت أذكر كيف تعامل رئيس الجامعة وقتها الدكتور حنا ناصر -أطال الله عمره-الذي تربطني به علاقة وثيقة حينما اتصلت به أخبره بتعرض عدد من الزملاء الطلبة لمحاولة اعتداء من قبل مجموعة أشخاص من إحدى القرى المجاورة، فحضر شخصياً خلال دقائق إلى موقع الحدث بسيارته الغولف الخضراء، مستغلاً تلك الدقائق لاستدعاء الأجهزة الأمنية والوجهاء، يومها قال حازماً حاسماً: "طلاب بيرزيت أبنائي ولن أسمح لأحد بالاعتداء على أي منهم".
لبيرزيت الفضل، فخلال خمس سنوات دراسية استثنائية حصلت على الشهادة العلمية وتسلحت بالوعي الكافي لمواجهة ظروف الحياة العملية، فبعد التخرج عملت مهندساً معمارياً في مكاتب هندسية في رام الله والخليل، ومن ثم انتقلت للعمل في شركة اتحاد المقاولين (CCC)، وهي شركة عالمية المستوى وفلسطينية الأصل والهوى، وكان من محاسن العمل فيها العودة الى بيرزيت "الحلم" مرة أخرى ولكن بمنظور جديد، موظفاً وليس طالباً، وقتها أصبح لدي رقمان جامعيان مميزان لا أنساهما أبداً، حيت شاركت ومجموعة من المهندسين في تأسيس أول فرع لشركة CCC مختص بنمذجة معلومات المشاريع (BIM) في فلسطين، وكان مقره داخل حرم جامعة بيرزيت، فبالإضافة لعملنا لصالح مشاريع الشركة خارج الوطن، عملنا على تطوير مهارات طلبة كلية الهندسة وإعدادهم للحياة العملية من خلال تقديم برامج تدريبية بشكل فصلي والإشراف على مشاريع تخرج عدد منهم، وقد تشرفت بتقديم العديد من هذه البرامج.
بعد ذلك، انتقلت للعمل بمشاريع شركة CCC في دول الخليج، وكان أولها مشروع تطوير مطار مسقط في سلطنة عمان، ومن ثم مشروع مطار أبو ظبي الجديد في دولة الإمارات، ومن ثم انتقلت إلى عملي الحالي في الهيئة الحكومية للنقل والمواصلات في دبي، حيث أقوم بمتابعة تطبيقات الهندسة الرقمية في العديد من مشاريع البنى التحتية العملاقة، ونتيجةً لذلك، فقد تم تتويجها كأول مؤسسة بالعالم بشهادات المطابقة لأعلى المعايير العالمية، وبأفضل تطبيق لنظام BIM حسب مواصفات (ISO 19650)، كما تم انتدابي عضواً مؤسساً بفريق قيادة التحول الرقمي بقطاع البناء والتشييد في دبي وعضواً مشاركاً بإدارة فرع دولة الإمارات لمنظمة معايير نمذجة معلومات البناء العالمية (Building SMART).
وفي إطار السعي الدائم للتميز وتبوء المناصب الرفيعة على طريق الابتكارات العالمية، فقد حصلت على جائزة مبتكر العام 2020 (Innovator of the Year) لجوائز التميز العالمية في مجالات الإعمار والهندسة والبناء (AEC Excellence Awards 2020)، حيث تم اختياري من بين أكثر من 300 مهندس ومختص في مجال الهندسة بمختلف دول العالم. الجائزة هي منصة مفتوحة لتقديم التجارب العملية لتطبيقات الهندسة الرقمية واستخدام التقنيات الحديثة في المشاريع العملاقة، حيث تقوم الجائزة على ثلاث فئات هي: فئة المشاريع التصميمية، وفئة المشاريع التنفيذية، وفئة متعلقة بالأشخاص الذين لهم بصمة واضحة وإنجازات ابتكارية متميزة، التي تُعرف بـ"المبتكر للعام". وتُطرح المسابقة، التي تتخذ من "لاس فيغاس" في الولايات المتحدة الأميركية مقرّاً لها كل سنة، ويشارك فيها خبراء ومختصون ومهندسون في مجال الهندسة وصناعة البناء والإنشاء من مختلف دول العالم، لعرض تجاربهم وحلولهم الإبداعية فيما يتعلق بالمشاريع التي يعرضونها.
وهذه ليست المرة الأولى التي أحصل فيها على جائزة عالمية المستوى، فقد سبق وحصلت على جائزة "الإنجاز الفردي المتميز 2019"، ضمن مسابقة الجوائز العالمية السنوية في مجال الهندسة وإدارة المشاريع، التي ينظمها سنويّاً المعهد العالمي لإدارة الأصول (AIM) ومقره لندن.